تفسير سورة العاديات
بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير سورة العاديات
منقول من تفسير في ظلال القرآن الكريم
العاديات
من الاية 1 الى الاية 5
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
سورة العاديات
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة , ينتقل من احداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا , في خفة وسرعة وانطلاق , حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع ! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف !
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة , القادحة للشرر بحوافرها , المغيرة مع الصباح , المثيرة للنقع وهو الغبار , الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة , وتثير في صفوفه الذعر والفرار !
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد !
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور !
وفي الختام ينتهي النقع المثار , وينتهي الكنود والشح , وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعا . إلى الله . فتستقر هناك: (إن ربك بهم يومئذ لخبير). . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة , تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة , والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة , كما تناسب جو الجحود والكنود , والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا , اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك , تثيره الخيل العادية في جريها , الصاخبة بأصواتها , القادحة بحوافرها , المغيرة فجاءة مع الصباح , المثيرة للنقع والغبار , الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار .
من الاية 6 الى الاية 10
إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (
أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
(والعاديات ضبحا , فالموريات قدحا , فالمغيرات صبحا , فأثرن به نقعا , فوسطن به جمعا . . إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد . . .)
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة , ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري , قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها , مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو , مثيرة للنقع والغبار . غبار المعركة على غير انتظار . وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب !
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . . والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها , بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها ?
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا . أما الذي يقسم الله - سبحانه - عليه , فهو حقيقة في نفس الإنسان , حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان . حقيقة ينبهه القرآن إليها , ليجند إرادته لكفاحها مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه , وثقل وقعها في كيانه:
(إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد). .
إن الإنسان ليجحد نعمة ربه , وينكر جزيل فضله . ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالا وأقوالا , فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة . وكأنه يشهد على نفسه بها . أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود: (وإنه على ذلك لشهيد). . يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا محال !
(وإنه لحب الخير لشديد)فهو شديد الحب لنفسه , ومن ثم يحب الخير . ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعا بأعراض الحياة الدنيا . . .
هذه فطرته . وهذا طبعه . ما لم يخالط الإيمان قلبه . فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته . ويحيل كنوده وجحوده اعترافا بفضل الله وشكرانا . كما يبدل أثرته وشحه إيثارا ورحمة . ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح . وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا . .
إن الإنسان - بغير إيمان - حقير صغير . حقير المطامع , صغير الاهتمامات . ومهما كبرت أطماعه . واشتد طموحه , وتعالت أهدافه , فإنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض , مقيدا بحدود العمر , سجينا في سجن الذات . . لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض , وأبعد من الحياة الدنيا , وأعظم من الذات . . عالم يصدر عن الله الأزلي , ويعود إلى الله الأبدي , وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء . .
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح , لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير , وتوقظ من غفلة البطر:
(أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور , وحصل ما في الصدور ?). .
وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور . بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير . وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيدا عن العيون . تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي . . فالجو كله عنف وشدة وتعفير !
أفلا يعلم إذا كان هذا ? ولا يذكر ماذا يعلم ? لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر . ثم ليدع النفس
من الاية 11 الى آخر السورة
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)
تبحث عن الجواب , وترود كل مراد , وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب !
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء , وكل أمر , وكل مصير:
(إن ربهم بهم يومئذ لخبير). .
فالمرجع إلى ربهم . وإنه لخبير بهم(يومئذ)وبأحوالهم وأسرارهم . . والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال . ولكن لهذه الخبرة(يومئذ)آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام . . . إنها خبرة وراءها عاقبة . خبرة وراءها حساب وجزاء . وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام !
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر . . حتى ينتهي إلى هذا القرار . . معنى ولفظا وإيقاعا , على طريقة القرآن !